كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج ابن جرير عن معمر قال: قلت للزهري في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ}: ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد اللّه أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون:
قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون: لا ندخلها وهم غيّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.
وقد يقال: إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه، وأنه كان حلالا لهم، فما معنى نفي الحرج فيه؟
والجواب: أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [آل عمران: 46] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا: الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.
وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} على بيوت الزوجات والأولاد.
ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان: وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم اللّه فالمعنى: ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.
وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام- قرب الجامع بينهما، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري: ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فنقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.
فإن قيل: فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قيل: إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلهم القعود عن الجهاد من غير استئذان ولا إذن، كما أنّ للمماليك والصبيان دخول البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهلها.
ومنها: أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} [البقرة: 188] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة عَلَى بمعنى في فقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ} إلخ معناه ليس في الأعمى حرج، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ.
ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية. أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ.
وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب: الآباء، والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات.
وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره، والأكل من بيوت الأصدقاء، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت، فهي في ظاهرها تنافي قوله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه».
وما في حديث ابن عمر عنه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه».
وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت، دون شرط ولا قيد، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان، وهو معارض لقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} وقوله عزّ وجلّ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} [الأحزاب: 53] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلا بإذن، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم، وأقلهم حجّابا، كان دخولهم بيت غيره صلّى اللّه عليه وسلّم بغير إذن أولى بالحظر، وأدخل في المنع.
من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين: إنما كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ بما تلونا، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: هذه الآية في الأقارب الكفرة، أباح اللّه سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وقال قتادة: الآية التي معنا على ظاهرها، والأكل مباح دون إذن، لكنه لا يجمل.
والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.
وقد يقال: إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟
والجواب: أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.
عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبون عليها يأكلون، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا، وضحك وقال: هكذا وجدناهم، يريد أكابر الصحابة.
وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت: لابد فيه من إذن صريح أو قرينة.
ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن، فهذا الظاهر غير مراد قطعا، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق، ولم يقل بذلك أحد.
والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض، ولا عبرة بنيته وقصده، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.
وأما قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا} فللمفسرين فيه رأيان:
الأول: أنّه كلام متصل بما قبله، ومن تمامه، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل نفسه أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها، كأنّه قيل: هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا}.
والرأي الثاني: أنّه كلام منقطع عما قبله، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، قال حاتم الطائي:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ** أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه.
وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم، وتعطيل مصالحهم، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.
وقد يقال: إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة، وأن تركه بغير داع مذمة. وفي الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده».
والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا، لا بخلا بالمشاركة، ولا كراهة في القرى.
ووجه آخر: وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.
{فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية، فكأنّ الآية تشير إلى أن القرابة والصداقة ليس معناهما إغفال الآداب العامة، وإهدار الحقوق الإسلامية، فإذا دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فلابد أن تسلموا عليهم، لأنّهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنّكم حين تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم.
هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد، والسلام على الأنفس باق على ظاهره، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين، فإذا دخل الرجل بيته قال: السلام علينا من ربنا إلخ.
وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار، وداخلها يقول ما تقدم، أو يقول: السلام على من اتبع الهدى.
وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ} تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند اللّه أنها ثابتة بأمره تعالى، ومشروعة من لدنه عزّ وجلّ.
قال الضحاك: في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: ما أخذت التشهد إلا من كتاب اللّه تعالى، سمعت اللّه تعالى يقول: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً} فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات للّه.
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي هكذا يفصّل اللّه لكم معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفقهوا عن اللّه أمره ونهيه وأدبه. اهـ.